سورة يونس - تفسير تفسير الألوسي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (يونس)


        


{هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22)}
{هُوَ الذى يُسَيّرُكُمْ فِى البر والبحر} وهو على ما قيل كلام مستأنف مسوق لبيان جناية أخرى لهم مبنية على ما مر آنفًا من اختلاف حالهم بحسب اختلاف ما يعتريهم من الضراء. وعن أبي مسلم أنه تفسير لبعض ما أجمل في قوله سبحانه: {وَإِذَا أَذَقْنَا الناس} [يونس: 21] الخ، وهو قريب من قول الإمام أنه تعالى لما قال: {وَإِذَا أَذَقْنَا} الآية وهو كلام كلي ضرب لهم مثلًا بهذا ليتضح ويظهر ما هم عليه.
وزعم بعضهم أنه متصل بما تقدم من دلائل التوحيد فكأنه قيل: إلهكم الذي جعل الشمس ضياءًا والقمر نورًا و{هُوَ الذى يُسَيّرُكُمْ} الخ، وأول التيسير بالحمل على السير والتمكين منه، والداعي لذلك قيل: عدم صحة جعل قوله سبحانه: {حتى إِذَا كُنتُمْ فِى الفلك} غاية للتسيير في البحر مع أنه مقدم عليه وغاية الشيء لابد أن تكون متأخرة عنه، وبعد التأويل لا إشكال في جعل ما ذكر غاية لما قبله.
وقيل: هو دفع لزوم الجمع بين الحقيقة والمجاز وذلك لأن المسير في البحر هو الله تعالى إذ هو سبحانه المحدث لتلك الحركات في الفلك بالريح ولا دخل للعبد فيه بل في مقدماته، وأما سير البر فمن الأفعال الاختيارية الصادرة من المخاطبين أنفسهم إن كانوا مشاة أو من دوابهم إن كانوا ركبانًا وتسيير الله تعالى فيه إعطاء الآلات والأدوات ولزوم الجمع عليه ظاهر. ووجه الدفع أن المراد من التسيير ما ذكر وهو معنى مجازي شامل للحقيقة والمجاز.
وادعى بعضهم اتحاد التسيير في البر والبحر واستدل بالآية على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى. وتعقب بأنه تكلف. والزمخشري لم يؤول التسيير بما ذكرنا وجعل الغاية مضمون الجملة الشرطية الواقعة بعد حتى بما في حيزها كأنه قيل: يسيركم حتى إذا وقعت هذه الحادثة وكانت كيت وكيت من مجىء الريح العاصف وتراكم الأمواج والظن للهلاك والدعاء بالإنجاء دون الكون في البحر، وتعقب ذلك القطب بأنه لو جعل الكون في الفلك مع ما عطف عليه من قوله تعالى: {وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا} كفى ولم يحتج إلى اعتبار مجموع الشرط والجزاء، ثم قال: والتحقيق أن الغاية إن فسرت بما ينتهي إليه الشيء بالذات فهي ليس إلا ما وقع شرطًا في مثل ذلك وإن فسرت بما ينتهي إليه الشيء مطلقًا سواء كان بالذات أو بالواسطة فهي مجموع الشرط والجزاء، واستوضح ذلك من قولك: مشيت حتى إذا بلغت البلد اتجرت فإن ما انتهى إليه المشي بالذات الوصول إلى البلد وأما الاتجار فأمر مترتب على ذلك فيكون مما انتهى إليه المشي بالواسطة والتضعيف في {يَسِيرٌ} للتعدية تقول سار الرجل وسيرته، وقال الفارسي: إن سار متعد كسير لأن العرب تقول سرت الرجل وسيرته عنى، ومنه قول الهذلي:
فلا تجزعي من سنة أنت سرتها *** فأول راض سنة من يسيرها
وقال في الصحاح: سارت الدابة وسارها صاحبها يتعدى ولا يتعدى وأنشد له هذا البيت، وأوله النحويون حيث لم يرتضوا ذلك، و{الفلك} السفن ومفرده وجمعه واحد وتغاير الحركات بينهما اعتباري، وفي الصحاح أنه واحد وجمع يذكر ويؤنث وكأن ذلك باعتبار المركب والسفينة، وكان سيبويه يقول: الفلك التي هي جمع تكسير للفلك الذي هو واحد وليست مثل الجنب الذي هو واحد وجمع والطفل وما أشبههما من الأسماء لأن فعلًا وفعلًا يشتركان في الشيء الواحد مثل العرب والعرب والعجم والعجم والرهب والرهب فحيث جاز أن يجمع فعل على فعل مثل أسد وأسد لم يمتنع أن يجمع فعل على فعل، وضمير {جرين} للفلك وضمير {نَخْسِفْ بِهِمُ} لمن فيها وهو التفات للمبالغة في تقبيح حالهم كأنه أعرض عن خطابهم وحكى لغيرهم سوء صنيعهم، وقيل: لا التفات بل معنى قوله سبحانه: {حتى إِذَا كُنتُمْ فِى الفلك} حتى إذا كان بعضكم فيها إذ الخطاب للكل ومنهم المسيرون في البر فالضمير الغائب عائد إلى ذلك المضاف المقدر كما في قوله تعالى: {أَوْ كظلمات فِى بَحْرٍ لُّجّىّ يغشاه مَوْجٌ} [النور: 40] فإنه في تقدير أو كذي ظلمات يغشاه موج، والباء الأولى للتعدية والثانية وكذا الثالثة للسببية فلذا تعلق الحرفان تعلق واحد، وإلا فقد منعوا تعلق حرفين عنى تعلق واحد، واعتبار تعلق الثاني بعد تعلق الأول به وملاحظته معه يزيل اتحاد المتعلق.
وجوز أن تكون الثانية للحال أي جرين بهم ملتبسة بريح فتتعلق حذوف كما في البحر، وقد تجعل الأولى للملابسة أيضًا {وَفَرِحُواْ} عطف على {جرين} هو عطف على {إِن كُنتُمْ} وقد تجعل حالًا بتقدير قد وضمير {بِهَا} للريح ونقل الطبرسي القول برجوعه للفلك ولا يكاد يجري به القلم، والمراد بطيبة حسا يقتضيه المقام لينة الهبوب موافقة المقصد.
وظاهر الآية على ما نقل عن الإما يقتضي أن راكب السفينة متحرك بحركتها خلافًا لمن قال: إنه ساكن، ولا وجه كما قال بعض المحققين لهذا الخلاف فإنه ساكن بالذات سائر بالواسطة. وقرأ ابن عامر {ينشركم} بالنون والشين المعجمة والراء المهملة من النشر ضد الطي أي يفرقكم ويبثكم، وقرأ الحسن {ينشركم} من أنسر عنى أحيا. وقرأ بعض الشاميين {ينشركم} بالتشديد للتكثير من النشر أيضًا، وعن أم الدرداء أنها قرأت {فِى} بزيادة ياءي النسب، ووجه ذلك بأنهما زائدتان كما في الخارجي والأحمري ولا اختصاص لذلك في الصفات لمجىء دودوي وأنا الصلتاني في قول الصلتان، ويجوز أن يراد به اللج والماء الغمر الذي لا تجري الفلك إلا فيه، وقوله سبحانه: {بِهَا جَاءتْهَا} جواب {إِذَا} والضمير المنصوب للفلك أو للريح الطيبة على معنى تلقتها واستولت عليها من طرف مخالف لها فإن الهبوب على وفقها لا يسمى على ما قيل مجيئًا لريح أخرى عادة بل هو اشتداد للريح الأولى، ورجح الثاني بأنه الأظهر لاستلزامه للأول من غير عكس لأن الهبوب على طريقة الريح اللينة يعد مجيئًا بالنسبة إلى الفلك دون الريح اللينة مع أنه لا يستتبع تلاطم لأمواج الموجب لمجيئها من كل مكان ولأن التهويل في بيان استيلائها على ما فرحوا به وعلقوا به حبال رجائهم أكثر وفيه تأمل {رِيحٌ عَاصِفٌ} أي ذات عصف فهو من باب النسب كلابن وتامر، ويستوي فيه المذكر والمؤنث كما صرحوا به فلذا لم يقل عاصفة مع أن الريح مؤنثة لا تذكر بدون تأويل.
وقيل: لم يقل عاصفة لأن العصوف مختص بالريح كحائض فلا حاجة إلى الفارق أو أنه اعتبر التذكير في الريح كما اعتبر فيها التأنيث والأولى ما قدمناه، وأصل العصف الكسر والنبات المتكسر والمراد شديدة الهبوب {وَجَاءهُمُ الموج} وهو ما علا وارتفع من اضطراب الماء، وقيل: هو اضطراب البحر والأول هو المشهور {مّن كُلّ مَكَانٍ} أي من أمكنة مجىء الموج عادة وقد يتفق مجيئه من جهات حسب أسباب تتفق لذلك {وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ} أي أهلكوا كما رواه ابن المنذر عن ابن جريج، ففي الكلام استعارة تبعية، وقيل: إن الإحاطة استعارة لسد مسالك الخلاص تشبيهًا له بإحاطة العدو بإنسان ثم كنى بتلك الاستعارة عن الهلاك لكونها من روادفها ولوازمها.
وقيل: إن ذلك مثل في الهلاك، والظن على ما يتبادر منه، وجوز أن يكون عنى اليقين بناءً على تحقق وقوعه في اعتقادهم أو كون الكناية عن القرب من الهلاك {دَّعَوَا الله} جعله غير واحد بدل اشتمال من ظنوا لأن دعاءهم من لوازم ظنهم الهلاك فبينهما ملابسة تصحح البدلية، وقيل: هو جواب ما اشتمل عليه المعنى من معنى الشرط أي لما ظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله الخ.
وجعله أبو حيان استئنافًا بيانيًا كأنه قيل: فماذا كان حالهم إذ ذاك؟ فقيل: دعوا الخ، ورجح القول بالبدل عليه بأنه أدخل في اتصال الكلام. والدلالة عن كونه المقصود مع إفادته ما يستفاد من الاستئناف مع الاستغناء عن تقدير السؤال. وأنت تعلم أن تقدير السؤال ليس تقديرًا حقيقيًا بل أمر اعتباري وفيه من الإيجاز ما فيه وليس بأبعد مما تكلف للبدلية، ويشعر كلام بعضهم جواز كونه جواب الشرط و{جَاءتْهَا} في موضع الحال كقوله تعالى: {فَإِذَا رَكِبُواْ فِى الفلك دَعَوُاْ الله} [العنكبوت: 65] الآية، وتعقب بأن الاحتياج إلى الجواب يقتضي صرف ما يصلح له إليه لا إلى الحال الفضلة المفتقرة إلى تقدير قد مع أن عطف {وَظَنُّواْ} على {جَاءتْهَا} يأبى الحالية والفرح بالريح الطيبة لا يكون حال مجىء العاصفة والمعنى على تحقق المجىء لا على تقديره ليجعل حالًا مقدرة ولا يخلو عن حسن، والظاهر أن ما عده مانعًا من الحالية غير مشترك بينه وبين كونه جواب {إِذَا} لأنه يقتضي أنهما في زمان واحد كما لا يخفى على من له أدنى معرفة بأساليب الكلام، وقوله سبحانه: {مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} حال من ضمير {دَّعَوَا} و{لَهُ} متعلق خلصين و{الدين} مفعوله أي دعوه تعالى من غير إشراك لرجوعهم من شدة الخوف إلى الفطرة التي جبل عليها كل أحد من التوحيد وأنه لا متصرف إلا الله سبحانه المركوزفي طبائع العالم وروي ذلك عن ابن عباس.
ومن حديث أخرجه أبو داود. والنسائي. وغيرهما عن سعد بن أبي وقاص قال: «لما كان يوم الفتح فر عكرمة بن أبي جهل فركب البحر فأصابتهم عاصف فقال أصحاب السفينة لأهل السفينة: أخلصوا فإن آلهتكم لا تغني عنكم شيئًا فقال عكرمة: لئن لم ينجني في البحر إلا الإخلاص ما ينجيني في البر غيره اللهم أن لك عهدًا إن أنت عافيتني مما أنا فيه أن آتي محمدًا حتى أضع يدي في يده فلأجدنه عفوًا كريمًا قال فجاء فأسلم». وفي رواية ابن سعد عن أبي مليكة «أن عكرمة لما ركب السفينة وأخذتهم الريح فجعلوا يدعون الله تعالى ويوحدونه قال: ما هذا؟ فقالوا: هذا مكان لا ينفع فيه إلا الله تعالى قال: فهذا له محمد صلى الله عليه وسلم الذي يدعونا إليه فارجعوا بنا فرجع. وأسلم». وظاهر الآية أنه ليس المراد تخصيص الدعاء فقط به سبحانه بل تخصيص العبادة به تعالى أيضًا لأنهم جرد ذلك لا يكونون مخلصين له الدين.
وأيًا ما كان فالآية دالة على أن المشركين لا يدعون غيره تعالى في تلك الحال، وأنت خبير بأن الناس اليوم إذا اعتراهم أمر خطير وخطب جسيم في بر أو بحر دعوا من لا يضر ولا ينفع ولا يرى ولا يسمع فمنهم من يدعو الخضر والياس ومنهم من ينادي أبا الخميس والعباس ومنهم من يستغيث بأحد الأئمة ومنهم من يضرع إلى شيخ من مشايخ الأمة ولا ترى فيهم أحدًا يخص مولاه بتضرعه ودعاه ولا يكاد يمر له ببال أنه لو دعا الله تعالى وحده ينجو من هاتيك الأهوال فبالله تعالى عليك قل لي أي الفريقين من هذه الحيثية أهدى سبيلًا وأي الداعيين أقوم قيلًا؟ وإلى الله تعالى المشتكى من زمان عصفت فيه ريح الجهالة وتلاطمت أمواج الضلالة وخرقت سفينة الشريعة واتخذت الاستغاثة بغير الله تعالى للنجاة ذريعة وتعذر على العارفين الأمر بالمعروف وحالت دون النهي عن المنكر صنوف الحتوف، هذا وقوله تعالى: {لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هذه لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين} في محل نصب بقول مقدر عند البصريين وهو حال من الضمير السابق، ومذهب الكوفيين إجراء الدعاء مجرى القول لأنه من أنواعه وجعل الجملة محكية به والأول هو الأولى هنا، واللام موطئة لقسم مقدر و{لَنَكُونَنَّ} جوابه. والمشار إليه بهذه الحال التي هم فيها أي والله لئن أنجيتنا مما نحن فيه من الشدة لنكونن البتة بعد ذلك أبدًا شاكرين لنعمك التي من جملتها هذه النعمة المسؤولة، والعدول عن لنشكرن إلى ما فيي النظم الجليل للمبالغة في الدلالة على الثبوت في الشكر والمثابرة عليه.


{فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23)}
{فَلَمَّا أَنجَاهُمْ} مما نزل بهم من الشدة والكربة، والفاء للدلالة على سرعة الإجابة {إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِى الارض} أي فاجأوا الفساد فيها وسارعوا إليه مترامين في ذلك ممعنين فيه من قولهم: بغى الجرح إذا ترامى في الفساد، وزيادة {فِى الارض} للدلالة على شمول بغيهم لأقطارها، وصيغة المضارع للدلالة على التجدد والاستمرار، وقوله سبحانه وتعالى: {بِغَيْرِ الحق} تأكيدًا لما يفيده البغي إذ معناه أنه بغير الحق عندهم أيضًا بأن يكون ظلمًا ظاهرًا لا يخفى قبحه على كل أحد كما قيل نحو ذلك في قوله تعالى: {وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ الحق} [البقرة: 61]
وقد فسر البغي بإفساد صورة الشيء وإتلاف منفعته وجعل {بِغَيْرِ الحق} للاحتراز مما يكون من ذلك بحق كتخريب الغزاة ديار الكفرة وقطع أشجارهم وحرق زروعهم كما فعل صلى الله عليه وسلم ببني قريظة.
وتعقب بأنه مما لا يساعده النظم الكريم لأن البغي بالمعنى الأول هو اللائق بحال المفسدين فينبغي بناء الكلام عليه. والزمخشري اختار كون ذلك للاحتراز عما ذكر. وذكر في الكشف أنه أشار بذلك إلى أن الفساد اللغوي خروج الشيء من الانتفاع فلا كل بغى أي فساد في الأرض واستطالة فيها كذلك كما علمت وإن كان موضوعه العرفي للاستطالة بغير حق لكن النظر إلى موضوعه الأصلي، وقيل: إن البغي الذي يتعدى بفي عنى الإتلاف والإفساد وهو يكون حقًا وغيره والذي يتعدى بعلى عنى الظلم، وتقييد الأول بغير الحق للاحتراز وتقييد الثاني به للتأكيد، ولعل من يجعل البغي هنا عنى الظلم يقول: إن المعنى يبغون على المسلمين مثلًا فافهم {يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا الناس} توجيه الخطاب إلى أولئك الباغين للتشديد في التهديد والمبالغة في الوعيد {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ} الذي تتعاطونه وهو مبتدأ خبره قوله سبحانه: {على أَنفُسِكُمْ} أي عليكم في الحقيقة لا على الذين تبغون عليهم وإن ظن كذلك، وقوله تعالى: {مَّتَاعَ الحياة الدنيا} نصب على أنه مصدر مؤكد لفعل مقدر بطريق الاستئناف أي تتمتعون متاع الحياة الدنيا، والمراد من ذلك بيان كون ما في البغي من المنفعة العاجلة شيئًا غير معتد به سريع الزوال دائم الوبال، وقيل: إنه منصوب على أنه مصدر واقع موقع الحال أي متمتعين، والعامل هو الاستقرار الذي في الخبر ولا يجوز أن يكون نفس البغي لأنه لا يجوز الفصل بين المصدر ومعموله بالخبر، وأيضًا لا يخبر عن المصدر إلا بعد تمام صلاته ومعمولاته. وتعقب بأنه ليس في تقييد كون بغيهم على أنفسهم بحال تمتعهم بالحياة الدنيا معنى يعتد به.
وقيل: على أنه ظرف زمان كمقدم الحاج أي زمان متاع الحياة الدنيا والعامل فيه الاستقرار أيضًا وفيه ما في سابقه، وقيل: على أنه مفعول لفعل دل عليه المصدر أي تبغون متاع الحياة الدنيا.
واعترض بأن هذا يستدعي أن يكون البغي عنى الطلب لأنه الذي يتعدى بنفسه والمصدر لا يدل عليه، وجعل المصدر أيضًا عناه مما يخل بجزالة النظم الكريم لأن الاستئناف لبيان سوء عاقبة ما حكى عنهم من البغي المفسر على المختار بالفساد المفرط اللائق بحالهم وحينئذٍ تنتفي المناسبة ويفوت الانتظام، وجعل الأول أيضًا عناه مما يجب تنزيه ساحة التنزيل عنه.
وقيل: على أنه مفعول له أي لأجل متاع الحياة الدنيا والعامل فيه الاستقرار. وتعقب بأن المعلل بما ذكر نفس البغي لا كونه على أنفسهم، وقيل: العامل فيه فعل مدلول عليه بالمصدر أي تبغون لأجل متاع الحياة الدنيا على أن الجملة مستأنفة، وقيل: على أنه مفعول صريح للمصدر وعليكم متعلق به لا خبر لما مر، والمراد بالأنفس الجنس، والخبر محذوف لطول الكلام، والتقدير إنما بغيكم على أبناء جنسكم متاع الحياة الدنيا مذموم أو منهي عنه أو ضلال أو ظاهر الفساد أو نحو ذلك. وفيه الابتناء على أن البغي عنى الطلب وقد علمت ما فيه. نعم لو جعل نصبه على العلة أي إنما بغيكم على أبناء جنسكم لأجل متاع الحياة الدنيا مذموم كما اختاره بعضهم لكان له وجه في الجملة لكن الحق الذي يقتضيه جزالة النظم هو الأول. وقرأ الجمهور {متاع} بالرفع.
قال صاحب المرشد: وفيه وجهان، أحدهما: كونه الخبر والظرف صلة المصدر. والثاني: كونه خبر مبتدأ محذوف أي هو أو ذلك متاع، وزيد وجه آخر وهو كونه خبرًا بعد خبر لبغيكم، والمختار بل المتعين على الوجه الأول كون المراد بأنفسكم أبناء جنسكم أو أمثالكم على سبيل الاستعارة، والتعبير عنهم بذلك للتشفيق والحث على ترك إيثار التمتع المذكور على ما ينبغي من الحقوق، ولا مانع على الوجهين الأخيرين من الحمل على الحقيقة كما بين ذلك مولانا شيخ الإسلام. وقرئ بنصب المتاع {والحياة} وخرج نصب الأول على ما مر ونصب الثاني على أنه بدل اشتمال من الأول.
وقيل: على أنه مفعول به له إذا لم يكن انتصابه على المصدرية لأن المصدر المؤكد لا يعمل، وذكر أبو البقاء أنه قرئ بجرهما على أن الثاني مضاف إليه والأول نعت للأنفس أي ذات متاع، وجوز أن يكون المصدر عنى اسم الفاعل أي متمتعات، وضعف كونه بدلًا إذ قد أمكن كونه صفة هذا وفي الآية من الزجر عن البغي ما لا يخفى. وقد أخرج أبو الشيخ. وأبو نعيم. والخطيب. والديلمي. وغيرهم عن أنس قال؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث هن رواجع على أهلها المكر والنكث والبغي ثم تلا عليه الصلاة والسلام {يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم} {ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله} {فمن نكث فإنما ينكث على نفسه}».
وأخرج البيهقي الشعب عن أبي بكرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من ذنب أجدر أن يعجل لصاحبه العقوبة من البغي وقطيعة الرحم» وأخرج أيضًا من طريق بلال بن أبي بردة عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يبغي على الناس إلا ولد بغى أو فيه عرق منه».
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس. وابن عمر رضي الله تعالى عنهم قالا: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو بغى جبل على جبل لدك الباغي منهما» وكأن المأمون يتمثل بهذين البيتين لأخيه.
يا صاحب البغي إن البغي مصرعة *** فاربع فخير فعال المرء أعدله
فلو بغى جبل يومًا على جبل *** لاندك منه أعاليه وأسفله
وعقد ذلك الشهاب فقال:
إن يعد ذو بغي عليك فخله *** وارقب زمانًا لانتقام باغي
واحذر من البغي الوخيم فلو بغى *** جبل على جبل لدك الباغي
{ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ} عطف على ما مر من الجملة المستأنفة المقدرة كأنه قيل: تتمتعون متاع الحياة الدنيا ثم ترجعون إلينا، وإنما غير السبك إلى ما في النظم الكريم للدلالة على الثبات والقصر.
{فَيُنَبّئُكُمْ بما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} في الدنيا على الاستمرار من البغي فهو وعيد وتهديد بالحزاء والعذاب وقد تقدم الكلام في نظيره.


{إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)}
{إِنَّمَا مَثَلُ الحياة الدنيا} كلام مستأنف لبيان شأن الحياة الدنيا وقصر مدة التمتع فيها، وأصل المثل ما شبه مضربه ورده ويستعار للأمر العجيب المستغرب، أي إنما حالها في سرعة تقضيها وانصرام نعيمها بعد إقبالها واغترار الناس بها {كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السماء فاختلط بِهِ} أي فكثر بسببه {نَبَاتُ الارض} حتى التف بعضه ببعض، فالباء للسببية ومنهم من أبقاها على المصاحبة، وجعل الاختلاط بالماء نفسه فإنه كالغذاء للنبات فيجري فيه ويخالطه والأول هو الذي يقتضيه كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنهما {مِمَّا يَأْكُلُ الناس والانعام} كالبقول والزروع. والحشيش والمراعي، والجار والمجرور في موضع الحال من النبات {حتى إِذَا أَخَذَتِ الارض} أي استوفت واستكملت {زُخْرُفَهَا} أي حسنها وبهجتها {وازينت} بأصناف النبات وأشكالها وألوانها المختلفة.
كأذيال خود أقبلت في غلائل *** مصبغة والبعض أقصر من بعض
وقد ذكر غير واحد أن في الكلام استعارة بالكناية حيث شبهت الأرض بالعروس وحذف المشبه به وأقيم المشبه مقامه وإثبات أخذ الزخرف لها تخييل وما بعده ترشيح، وقيل: الزخرف الذهب استعير للنضارة والمنظر الشار، وأصل ازينت تزينت فأدغمت التاء في الزاي وسكنت فاجتلبت همزة وصل للتوصل للابتداء بالساكن، وبالأصل قرأ عبد الله، وقرأ الأعرج. والشعبي. وأبو العالية. ونصر بن عاصم. والحسن بخلاف {وازينت} بوزن أفعلت كأكرمت، وكان قياسه أن يعل فيقلب ياؤه ألفًا فيقال أزانت لأنه المطرد في باب الأفعال المعتل العين لكنه ورد على خلافه كأغيلت المرأة إذا سقت ولدها الغيل وهو لبن حملها عليه وقد جاء أغالت على القياس.
ومعنى الأفعال هناك هنا الصيرورة أي صارت ذات زينة أو صيرت نفسها كذلك، وقرأ أبو عثمان النهدي {أزيأنت} بهمزة وصل بعدها زاي ساكنة وياء مفتوحة وهمزة كذلك ونون مشددة وتاء تأنيث، وأصله ازيانت بوزن احمارت بألف صريحة فكرهوا اجتماع ساكنين فقلبوا الألف همزة مفتوحة كما قرئ {الضألين} [الفاتحة: 7] وجاء أيضًا احمأرت بالهمزة كقوله:
إذا ما الهوادي بالعبيط حمأرت ***
وقرأ عوف بن جميل {ازيانت} بألف من غير إبدال، وقرئ {ازاينت} لقصد المبالغة {وازينت وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا} أي على الأرض، والمراد ظنوا أنهم متمكنون من منفعتها محصلون لثمرتها رافعون لغلتها، وقيل: الكناية للزروع، وقيل: للثمرة، وقيل: للزينة لانفهام ذلك من الكلام {أَتَاهَا أَمْرُنَا} جواب {إِذَا} أي نزل بها ما قدرناه من العذاب وهو ضرب زرعها ما يجتاحه من الآفات والعاهات كالبرد. والجراد. والفأر. والصرصر. والسموم. وغير ذلك {لَيْلًا أَوْ نَهَارًا} أي في ليل أو في نهار، ولعل المراد الإشارة إلى أنه لا فرق في إتيان العذاب بين زمن غفلتهم وزمن يقظتهم إذ لا يمنع منه مانع ولا يدفع عنه دافع {فَجَعَلْنَاهَا} أي فجعلنا نباتها {حَصِيدًا} أي شبيهًا بما حصد من أصله، والظاهر أن هذا من التشبيه لذكر الطرفين فيه فإن المحذوف في قوة المذكور، وجوز أن يكون هناك استعارة مصرحة والأصل جعلنا نباتها هالكًا فشبه الهالك بالحصيد وأقيم اسم المشبه به مقامه، ولا ينافيه تقدير المضاف كما توهم لأنه لم يشبه الزرع بالحصيد بل الهالك به.
وذهب السكاكي إلى أن في الكلام استعارة بالكناية حيث شبهت الأرض المزخرفة والمزينة بالنبات الناضر المونق الذي ورد عليه ما يزيله ويفنيه وجعل الحصيد تخيلًا ولا يخفى بعده {كَأَن لَّمْ تَغْنَ} أي كان لم يغن نباتها أي لم يمكث ولم يقم، فتغن من غنى بالمكان إذا أقام ومكث فيه ومنه قيل للمنزل مغني، وقد حذف المضاف في هذا وفيما قبله فانقلب الضمير المجرور منصوبًا في أولهما ومرفوعًا مستترًا في الثاني، واختير الحذف للمبالغة حيث أفاد ظاهر الكلام جعل الأرض نفسها حصيدًا وكأنها نفسها لم تكن لتغيرها بتغير ما فيها، وقد عطف بعضهم عليهما {عَلَيْهَا} لما أن التقدير فيه على نباتها فحذف المضاف وجر الضمير بعلى وليس بالبعيد خلا أن في كون الحذف للمبالغة أيضًا ترددًا، وقيل: ضمير {تَغْنَ} وما قبله يعودان على الزرع كما قيل في ضمير {عَلَيْهَا} وقيل: يعودان على الأرض ولا حذف بل يجعل التجوز في الإسناد. وأنت تعلم أن إرجاع الضمائر كلها للأرض ولو مع ارتكاب التجوز في الإسناد أولى من إرجاعها لغيرها كائنًا ما كان. نعم إنه لا يمكن إرجاع الضمير إليها في قراءة الحسن {يُغْنِى} بالياء التحتية وجعل ذلك من قبيل ولا أرض أبقل أبقالها كما ترى فينبغي أن يرجع للنبات أو للزرع مثلًا ومآل المعنى كأن لم يكن نابتًا {بالامس} أي فيما قبل إتيان أمرنا بزمان قريب فإن الأمس مثل في ذلك، والجملة التشبيهية جوز أن تكون في محل النصب على أنها حال وأن تكون مستأنفة لا محل لها من الإعراب جوابًا لسؤال مقدر، والممثل به في الآية ما يفهم من الكلام وهو زوال خضرة النبات فجأة وذهابه حطامًا لم يبق له أثر بعد ما كان غضًا طريقًا قد التف بعضه ببعض وازينت الأرض بأوالنه حتى طمع الناس وظنوا أنه قد سلم من الجوائح لا الماء وإن دخلته كاف التشبيه فإنه من التشبيه المركب مع اشتمال الكلام نفسه على أمور حقيقية وأمور مجازية فيها من اللطافة ما لا يخفى. وعن أبي أنه قرأ {كَأَن لَّمْ تَغْنَ بالامس وَمَا أهلكناها إِلا بِذُنُوبِ أَهْلِهَا} {كذلك} أي مثل ذلك التفصيل البديع {نُفَصّلُ الآيات} أي القرآنية التي من جملتها هذه الآية الجليلة الشأن المنبهة على أحوال الحياة الدنيا أي نوضحها ونبينها {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} في معانيها ويقفون على حقائقها، وتخصيصهم بالذكر لأنهم المنتفعون، وجوز أن يراد بالآيات ما ذكر في أثناء التمثيل من الكائنات والفاسدات وبتفصيلها تصريفها على الترتيب المحكي إيجادًا وإعدامًا فإنها آيات ما ذكر في أثناء التمثيل من الكائنات والفاسدات وبتفصيلها تصريفها على الترتيب المحكي إيجادًا وإعدامًا فإنها آيات وعلامات يستدل بها المتفكر فيها على أحوال الحياة الدنيا حالًا ومآلًا والأول هو الظاهر.
وعن أبي مجلز أنه قال: كان مكتوبًا إلى جنب هذه الآية فمحى {وَلَوْ أَنَّ عَلَيْهِمْ ءايات الرحمن خَرُّواْ سُجَّدًا وَبُكِيًّا فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصلاة واتبعوا الشهوات فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيًّا إِلاَّ مَن تَابَ}.

4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11